التحقيقات التركية والمعارضة- صراع السلطة، نقاط القوة والضعف، وتحديات المستقبل

المؤلف: كمال أوزتورك09.10.2025
التحقيقات التركية والمعارضة- صراع السلطة، نقاط القوة والضعف، وتحديات المستقبل

منذ بزوغ فجر الثورة السورية، انهمكنا نحن الصحفيين والمحللين السياسيين في استعراض التحولات الجيوسياسية المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط، وتسليط الضوء على الصعود المتنامي للنفوذ التركي إقليميًا. ولم نكن في هذا المسعى وحدنا، فالرئيس الأميركي آنذاك، دونالد ترامب، ووسائل الإعلام العالمية على اتساعها، كانت تشاركنا الاهتمام ذاته، وتتداول هذه القضايا بإسهاب.

إلا أن مسار الأحداث داخل الأراضي التركية شهد تحولًا لافتًا ومفاجئًا في شهر فبراير/شباط من العام الجاري. ففي ذلك الشهر، أطلق النائب العام في إسطنبول سلسلة من التحقيقات القضائية التي استهدفت بلديات تابعة لأحزاب المعارضة، وبعض المؤسسات الإعلامية المعارضة للحكومة. وبلغت هذه التحقيقات ذروتها بفتح قضايا ضد رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أوغلو، وعدد من المقربين والمعاونين له.

منذ ذلك الحين، استحوذ هذا الموضوع على اهتمام وسائل الإعلام، وتصدّر نشرات الأخبار والبرامج الحوارية. وانصب تركيز الرأي العام التركي بشكل مكثف على هذه التحقيقات وتطوراتها لما يقارب الشهر بأكمله.

لكن هذا التغيير الطارئ في سلم الأولويات وجدول الأحداث لم يكن نتاج تطورات استثنائية أو ظروف غير مألوفة. بل لا يمكن فهم أبعاده ودلالاته الحقيقية دون التمعن مليًا في طبيعة وضع المعارضة السياسية داخل تركيا.

واقع المعارضة في تركيا

من خلال المتابعة الخارجية للأخبار والمعلومات المتداولة، قد يتولد انطباع بأن الدولة التركية تسعى جاهدة لإخماد صوت المعارضة، وزجّ رموزها وقواعدها في غياهب السجون، وفرض هيمنة سياسية مطلقة تخلو من أي صوت مخالف أو رأي معارض. وإذا ما تأملنا في حجم القضايا المفتوحة ضد المعارضين، وأعداد الشخصيات التي أُودعت السجون، فقد نجد أن هذا الانطباع ليس بعيدًا كل البعد عن الواقع الملموس.

لكن الحقيقة أشد تعقيدًا وتشابكًا من ذلك. ففي الانتخابات الأخيرة التي شهدتها تركيا، شارك ما لا يقل عن خمسة وثلاثين حزبًا سياسيًا، من بينها اثنان وثلاثون حزبًا تُصنف في خانة المعارضة. وفي الوقت الراهن، يوجد ستة عشر حزبًا ممثلًا في البرلمان التركي، ثلاثة عشر منها تنتمي إلى صفوف المعارضة المتنوعة. علاوة على ذلك، تحظى القنوات التلفزيونية التي تدعم المعارضة بأعلى نسب المشاهدة، وتعتبر الصحف والمطبوعات التابعة لها الأكثر مبيعًا وانتشارًا على نطاق واسع.

بعبارة أخرى، تظل المعارضة حاضرة بقوة وفاعلية في المشهد السياسي التركي، وتلعب دورًا محوريًا في الحياة العامة. ومع ذلك، فإنها محقة في إثارة نقطة جوهرية ومهمة، وهي أنه بينما لا تُفتح أي تحقيقات أو قضايا بحق البلديات والمؤسسات الإعلامية التابعة للحكومة، فإن التحقيقات القضائية لا تنقطع وتستمر ضد الجهات المعارضة، مما يجعل تفسير هذا التفاوت في المعاملة أمرًا بالغ الصعوبة.

وقد يندهش القارئ إذا علم أن جزءًا كبيرًا من تلك القضايا قد أُطلق بمبادرة شخصية من أعضاء في المعارضة أنفسهم. فعلى سبيل المثال، خلال انعقاد مؤتمر عام لحزب الشعب الجمهوري (CHP) في عام 2023، قام أعضاء من داخل الحزب بالإبلاغ طوعًا إلى السلطات القضائية عن عمليات شراء للأصوات بالرشوة خلال انتخابات المندوبين، وهو ما أدى إلى فتح قضايا وتحقيقات في هذا الشأن. وبالمثل، قام موظفون في بلدية بيكوز التابعة للحزب ذاته بالإبلاغ عن تورط رئيس البلدية في قضايا فساد مالي وإداري، مما أسفر عن فتح ملفات تحقيق ضده.

وفي آخر سلسلة من التحقيقات التي طالت أكرم إمام أوغلو ومرافقيه، صرّح الرئيس رجب طيب أردوغان بنفسه بأن القسم الأكبر من الشكاوى والمعلومات التي قُدّمت إلى القضاء جاءت من شخصيات تنتمي إلى حزب الشعب الجمهوري.

فما الذي يدفع إلى مثل هذا السلوك الغريب؟ يكمن السبب الرئيسي في احتدام صراع النفوذ والتنافس الداخلي المحموم داخل الحزب الرئيسي للمعارضة، حتى قبل أن يتمكن من الوصول إلى السلطة. ونظرًا لعدم وجود قوى سياسية بديلة حقيقية قادرة على منافسة حزب العدالة والتنمية (AKP) بقوة، فإن هذا الصراع الداخلي داخل المعارضة يزداد حدة وضراوة.

لذلك، أصبح من المألوف سماع هذه العبارة في الأوساط السياسية التركية: "تركيا لا تعاني من أزمة سلطة، بل من أزمة معارضة حقيقية".

معضلتان جوهريتان في تركيا

في ظل النجاحات الإقليمية التي حققتها تركيا في الملف السوري، والتنامي المطرد لمكانتها على الساحة الدولية، يتبادر إلى الذهن سؤال جوهري: لماذا ينشغل الرأي العام التركي بقضايا تحقيقية تُلحق الضرر بحزب العدالة والتنمية، بدلًا من التركيز على إنجازاته ومكاسبه؟

تبدو قيادة الحزب الحاكم مرتبكة إلى حد ما في التعامل مع هذا الملف الشائك، إذ تؤكد أن السلطة القضائية مُلزمة قانونًا بتتبّع البلاغات والشكاوى المتعلقة بالفساد، ولا يمكنها التغاضي عنها أو تجاهلها مراعاةً لأي حسابات سياسية. أما القضاء نفسه، فيشدد على أنه لا يتحرك بناءً على أجندة سياسية مسبقة أو حساسيات ظرفية، ولهذا السبب لا يمكن منع هذه التحقيقات من تصدر المشهد العام.

بيدَ أن هناك قضيتين أساسيتين لا ينبغي إغفالهما أو التقليل من شأنهما:

  • أولًا: يخضع النظام القضائي في تركيا منذ ما يقارب الخمس سنوات لنقاش مستمر وجدل متواصل حول مدى حياده واستقلاليته. وقد شهدت ثقة المجتمع التركي في هذا النظام تراجعًا حادًا وملحوظًا. فتركيا، ومنذ نحو خمسين عامًا، لم تنجح في إيجاد حل جذري لمعضلة تسييس القضاء، وهي ليست مشكلة تقتصر على حزب بعينه، بل هي مشكلة بنيوية مزمنة لطالما عانى منها جميع من تولوا السلطة في البلاد.

اليوم، حتى إذا أثبتت التحقيقات وجود فساد في بلدية معارضة أو ضد شخصية بعينها، فإن إقناع الرأي العام بذلك يبدو أمرًا عسيرًا وشاقًا للغاية. بل إن بثّ مشاهد حية لعمليات أخذ الرُّشا وتبادل الأموال المشبوهة لا يضمن تصديق الناس، نظرًا لما بلغه انعدام الثقة في منظومة العدالة من مستويات غير مسبوقة.

  • ثانيًا: لا يزال تمويل الأنشطة السياسية يمثل معضلة مستعصية على الحل في تركيا. وتُعد أبرز المزاعم التي تتردد في سياق التحقيقات الأخيرة أن ملايين الدولارات التي اختُلست من بلديات معارضة كانت تهدف بشكل أساسي إلى تمويل الحملة الانتخابية للرئاسة المقبلة.

فالعمل السياسي ينطوي على تكاليف باهظة ومتزايدة باستمرار، وتلجأ الأحزاب السياسية أحيانًا إلى استغلال موارد البلديات ومزايا السلطة المتاحة لتأمين التمويل اللازم لأنشطتها وحملاتها. ورغم أن الأحزاب هي مؤسسات تعتمد في الأساس على التبرعات والهبات، فإن هذه التبرعات غالبًا ما تكون غير كافية لتلبية الاحتياجات المتزايدة، مما يدفع البعض إلى البحث عن طرق بديلة للتمويل، حتى لو كانت غير قانونية أو مشبوهة.

ومن الشائع الحديث في كل موسم انتخابي عن دفع مبالغ طائلة وغير مُعلَنة لقاء الحصول على فرصة الترشح لمناصب نيابية أو بلدية. وقد جرت محاولات سابقة لسنّ قوانين وتشريعات تنظّم تمويل الحياة السياسية وتجعلها أكثر شفافية وخاضعة للرقابة الصارمة، لكنها باءت بالفشل ولم تحقق النتائج المرجوة.

من الرابح من التحقيقات؟

تزعم المعارضة التركية أن التحقيقات الجارية بحق أكرم إمام أوغلو وفريقه ليست سوى مؤامرة مُحاكة بدقة من قبل السلطة الحاكمة، وتصفها بأنها تحقيقات مختلقة ولا أساس لها من الصحة على الإطلاق.

ولكن، هل حققت هذه التحقيقات النتائج المرجوة لصالح الحكومة؟ في اعتقادي أن الجواب هو: لا، لم تفعل ذلك.

ففي الانتخابات المحلية التي أُجريت عام 2019، فاز إمام أوغلو بمنصب رئيس بلدية إسطنبول بفارق ضئيل لا يتجاوز خمسة عشر ألف صوت، لكن تم إلغاء النتيجة لاحقًا بزعم وجود عمليات تلاعب وتزوير.

حينها، اتهمت المعارضة السلطة الحاكمة بالتدخل السياسي والتأثير في نتائج الانتخابات، غير أن الإعادة الانتخابية جاءت بنتيجة مدوية ومفاجئة، إذ فاز إمام أوغلو بفارق يتجاوز 800 ألف صوت، وسجّل بذلك أكبر خسارة انتخابية في تاريخ حزب العدالة والتنمية.

يكمن السبب الرئيسي في ذلك في الحساسية العالية التي يبديها الناخب التركي تجاه الشعور بالظلم والاضطهاد. وهذه الظاهرة موثّقة جيدًا في التاريخ التركي، وهناك أمثلة عديدة تؤكد ذلك.

وقد تترك التحقيقات الراهنة أثرًا مشابهًا تمامًا، فإذا اقتنع الناخبون بأن أكرم إمام أوغلو وحزبه يتعرضان للاضطهاد السياسي والتضييق الظالم، فقد يمنحونه وحزبه تأييدًا كاسحًا وغير مسبوق.

ورغم أن المعارضة تدّعي أن الهدف الحقيقي من هذه التحقيقات هو إقصاء إمام أوغلو سياسيًا، فإن هناك بُعدًا آخر لا يقل أهمية؛ فمرشح الحزب الآخر، منصور يافاش، رئيس بلدية أنقرة الحالي، يحظى بشعبية أوسع وأكبر منه. بل إن استطلاعات الرأي تشير بوضوح إلى أنه قادر على تحقيق الفوز في الانتخابات الرئاسية في حال ترشحه.

غير أن فئة نافذة داخل الحزب تُفضّل ترشيح إمام أوغلو في الانتخابات؛ بسبب الصراع الداخلي المحتدم على القيادة، وتسعى جاهدة لتقديمه على غيره من المرشحين المحتملين.

وعليه، فإن كانت الحكومة تعوّل على هذه التحقيقات لقطع الطريق أمام المعارضة وإضعافها، فهي ترتكب خطأ فادحًا. فالسياسي لا يُهزم أو يُقضى عليه إلا في صناديق الاقتراع، وليس في أروقة المحاكم أو ساحات القضاء.

مواطن القوة والوهن

ردّت المعارضة بسرعة على التحقيقات الجارية بإطلاق حملة اتصالات سياسية مكثفة، ونظّمت خلال أسبوع واحد فقط تظاهرات حاشدة شارك فيها عشرات الآلاف من المواطنين، مستثمرةً بذلك حالة المظلومية والشعور بالاضطهاد لصالحها. وقد تمكّنت المعارضة من فرض سيطرتها النفسية على المشهد السياسي، ويُعتقد على نطاق واسع أنها لو دخلت انتخابات مبكرة خلال عام واحد فستفوز على الأرجح.

لكنّ أمام الانتخابات الرئاسية ثلاث سنوات كاملة، ولا يمكن التوجّه إلى انتخابات مبكرة دستوريًا دون الحصول على موافقة حزب العدالة والتنمية.

وهنا تبرز ثلاثة تحديات كبرى تواجه المعارضة:

  1. الحفاظ على الزخم السياسي القوي الذي حققته على مدار السنوات الثلاث القادمة، وإقناع الجمهور التركي بقدرتها على إدارة شؤون الدولة بكفاءة وفعالية، وإبقاء قضية المظلومية حاضرة بقوة في الوعي العام.
  2. إنهاء الصراع الداخلي العنيف داخل حزب الشعب الجمهوري، والحفاظ على وحدة الصف والتضامن بين جميع أحزاب المعارضة.
  3. استيعاب التحولات الإقليمية والدولية المتسارعة، والاستجابة للمخاوف الأمنية المتزايدة الناتجة عن الحروب والأزمات المستمرة، وإخراج زعيم من بين صفوفها يضاهي الرئيس أردوغان في الثقة والقبول على الصعيد العالمي.

وهذه جميعها تحديات صعبة ومعقدة تواجه المعارضة، بينما تملك أفضلية واضحة في ملف المظلومية والأخطاء التي ترتكبها السلطة الحاكمة.

أما نقاط القوة والضعف في صف الحكومة، فهي على النحو التالي:

  1. الاقتصاد التركي الذي بدأ يتعافى تدريجيًا عاد مرة أخرى إلى دائرة الخطر، وتزايدت المخاوف الاقتصادية لدى المواطنين بشكل ملحوظ. وقد أنفقت الدولة ما يقارب 25 مليار دولار لموازنة سعر الصرف، مما أثقل كاهل الخزينة العامة وأضعف قدرتها على مواجهة التحديات الاقتصادية المستقبلية. وإذا لم تتم معالجة هذه المشكلات الاقتصادية قبل موعد الانتخابات، فإن خسارة الحكومة تبدو مرجحة للغاية.
  2. ضرورة إيجاد حل جذري لأزمة تمويل السياسة، وتعزيز ثقة المواطنين في منظومة العدالة لتمكينها من مكافحة الفساد بفاعلية وشفافية.
  3. الحاجة الملحة إلى سن قوانين وتنظيمات جديدة تخضع البلديات والمؤسسات التابعة للسلطة لرقابة عادلة وشفافة تثبت خلوها من الفساد وسوء الإدارة.
  4. اكتسبت تركيا، بفضل الدور الذي لعبته في الثورة السورية، مكانة دولية مرموقة، وحقق الرئيس أردوغان نجاحات كبيرة في ملفات حساسة مثل الأزمة الأوكرانية، والوضع في غزة، والملف السوري، مما جعله الشخصية السياسية الأكثر ثقةً داخل تركيا وخارجها.
  5. أطلق الرئيس التركي مشروعات ضخمة في مجالات حيوية مثل الصناعات الدفاعية، والتكنولوجيا المتقدمة، ومصادر الطاقة المتنوعة، والسياسة الخارجية الفعالة، مما عزز اقتصاد البلاد وعزز ثقة الجمهور بقدراته القيادية.
  6. إذا نجحت مبادرة "تركيا بلا إرهاب" في حمل حزب العمال الكردستاني على إلقاء السلاح والعدول عن العنف وإنهاء التهديد الذي يشكله على الأمن القومي التركي، فستكون هذه المبادرة بمثابة مكسب استراتيجي ضخم للحكومة، وسينعكس ذلك إيجابًا على شعبيتها المتزايدة.

ثلاث سنوات كفيلة بتغيير كل شيء

صحيح أن الأجواء النفسية السائدة في الداخل التركي تميل حاليًا نحو دعم المعارضة، إلا أن الموقف الدولي لا يزال يفضل حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان. وحتى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي لم تصدر عنها انتقادات حادة بشأن التحقيقات الجارية، مما يدل على أن التوازن الخارجي ما زال يميل لصالح الحكومة.

وإذا أخذنا في الاعتبار أن الانتخابات الرئاسية المقبلة لن تُجرى قبل عام 2028، فإن الوقت لا يزال طويلاً ومتاحًا، وكفيلًا بتغيير كل شيء وقلب الطاولة على جميع الأطراف المتنافسة.

ومن المؤكد أن المعارضة والسلطة ستبذلان قصارى جهدهما للحفاظ على مواقعهما وتعزيز نفوذهما خلال هذه المدة المتبقية. غير أن التحولات الدولية المتسارعة أثبتت قدرتها الفائقة على التأثير العميق في مجريات الأحداث، وهو ما يجعل حظوظ المعارضة أقل نسبيًا، بالنظر إلى قلة خبرتها السياسية وصعوبة إقناعها للجمهور التركي المتشكك.

وفي المقابل، لا بد من التنويه والإشارة إلى أن الحكومة نفسها باتت في حاجة ماسة إلى انطلاقة جديدة ورؤية سياسية متجددة، وإلى هجوم سياسي مضاد ومدروس بعناية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة